صلاح الدين الأيوبي: القائد الذي أعاد الهيبة للأمة الإسلامية

في تاريخ الأمة الإسلامية، برزت شخصيات عظيمة تركت بصمات خالدة، لكن قلّما حظيت شخصية بمكانة في الذاكرة الجمعية الإسلامية والعالمية كما حظي بها القائد صلاح الدين الأيوبي. لم يكن مجرد قائد عسكري بارع أو حاكم سياسي ناجح، بل كان تجسيداً لقيم الفروسية، والعدل، والتسامح، والإصلاح. حمل على عاتقه مهمة إعادة الكرامة للأمة الإسلامية في فترة حرجة من تاريخها، وتمكّن من تحقيق ما بدا مستحيلاً في وجه الحملات الصليبية والاضطرابات الداخلية.

النشأة والتكوين: من تكريت إلى العلا

ولد صلاح الدين الأيوبي في عام 1137م بمدينة تكريت الواقعة في العراق حالياً، لأسرة كردية تنتمي إلى قبيلة الروادية. اسمه الكامل هو يوسف بن أيوب بن شاذي، واشتهر بلقب “صلاح الدين”. كان والده نجم الدين أيوب من القادة العسكريين البارعين، وقد التحق بخدمة الدولة الزنكية في عهد عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين محمود، ما أتاح لصلاح الدين فرصة النمو في بيئة عسكرية وسياسية مؤهلة لتكوين زعيم مستقبلي.

انتقل مع والده إلى مدينة الموصل ثم إلى حلب ودمشق، وهناك تلقى تعليماً دينياً وثقافياً راقياً، فنهل من علوم الفقه، والتفسير، واللغة، إضافة إلى تدريبه على فنون الحرب والقيادة. تأثر بشدة بالنهج السني الإصلاحي الذي كان يتبناه نور الدين محمود، والذي دعا إلى وحدة الصف الإسلامي ونبذ الفرقة المذهبية ومواجهة الخطر الصليبي المتزايد.

البداية السياسية والعسكرية في مصر

كانت نقطة التحول الكبرى في حياة صلاح الدين حين توجه مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر بأمر من نور الدين محمود عام 1164م، للمساعدة في التصدي للنفوذ الصليبي والتوسع الفاطمي المتداعي. وبعد عدة حملات ناجحة، توفي شيركوه عام 1169م، وتولّى صلاح الدين منصب الوزارة في الدولة الفاطمية. كانت مصر آنذاك تعيش حالة من التدهور الإداري والانقسام الطائفي، غير أن صلاح الدين تمكن بمهارة وحكمة من تثبيت أقدامه، وأعاد بناء مؤسسات الدولة وفق النهج السني، دون اللجوء إلى العنف أو الانتقام، في خطوة حاسمة أنهت الحكم الفاطمي وأعادت مصر إلى دائرة الحكم العباسي.

توحيد الجبهة الإسلامية

بعد وفاة نور الدين محمود عام 1174م، واجه صلاح الدين تحدي السيطرة على الشام وتوحيد الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين. كانت الشام مقسمة بين أمراء محليين ضعفاء، يفتقرون إلى الرؤية الموحدة. خاض صلاح الدين حروباً عدة ضد هؤلاء الأمراء، وتمكن من السيطرة على دمشق وحلب وحمص وحماة، وأسس دولة قوية تمتد من مصر إلى بلاد الشام والحجاز واليمن. بهذا التوسع، استطاع صلاح الدين أن يحقق وحدة إسلامية حقيقية طالما دعا إليها نور الدين محمود.

المواجهة مع الصليبيين: معركة حطين

بلغت ذروة نضال صلاح الدين ضد الصليبيين في معركة حطين عام 1187م، التي تُعدّ من أعظم الانتصارات العسكرية في تاريخ الإسلام. وقعت المعركة في شمال فلسطين، وواجه فيها جيش صلاح الدين قوات مملكة القدس الصليبية بقيادة غي دي لوزينيان وريمار من طرابلس. استخدم صلاح الدين تكتيكات حربية بارعة، فاستنزف العدو في حر الصيف، وقطع عنهم الماء، ثم هاجمهم بعد إنهاكهم، وحقق نصراً ساحقاً أنهى الوجود العسكري الصليبي في معظم مناطق فلسطين والشام.

استعادة القدس: الحدث المفصلي

بعد معركة حطين، تابع صلاح الدين حملته وحرر معظم المدن الفلسطينية والساحلية، وصولاً إلى القدس، التي دخلها في 2 أكتوبر 1187م. لم يكن تحرير القدس مجرد نصر عسكري، بل كان حدثاً حضارياً وأخلاقياً عظيماً. رفض صلاح الدين الانتقام من سكان المدينة، ومنحهم الأمان، وفتح أبواب القدس لمن شاء أن يغادر أو يبقى، مخالفاً بذلك ما فعله الصليبيون حين دخلوا المدينة عام 1099م وارتكبوا مجازر مروعة.

هذا السلوك الإنساني أكسب صلاح الدين احترام أعدائه قبل أصدقائه، حتى أن المؤرخين الأوروبيين وصفوه بأنه “الفارس النبيل”، وتحوّل إلى رمز عالمي للفروسية والتسامح الديني.

الحملة الصليبية الثالثة وصمود صلاح الدين

أثارت هزيمة الصليبيين واستعادة القدس غضب أوروبا، فدعا البابا أوربان الثالث إلى حملة صليبية جديدة، عُرفت بالحملة الصليبية الثالثة، قادها أبرز ملوك أوروبا مثل ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا. كانت المعارك ضارية، خصوصاً في عكا وأرسوف ويافا، لكن رغم التفوق العددي والتقني للصليبيين، تمكن صلاح الدين من صدهم والحفاظ على سيطرته على القدس.

انتهت الحملة بتوقيع صلح الرملة عام 1192م، الذي قضى بأن تبقى القدس في يد المسلمين مع ضمان حرية الحجاج المسيحيين، وهو ما اعتبر نجاحاً دبلوماسياً وعسكرياً لصلاح الدين، رغم الضغط الهائل الذي واجهه.

الصفات الشخصية والأخلاقية لصلاح الدين

من أبرز ما ميّز صلاح الدين الأيوبي كان تديّنه العميق، وتواضعه رغم عظم إنجازاته، وحرصه على إقامة العدل ونصرة المظلوم. لم يكن يفرّق بين الناس على أساس العرق أو الدين، وكان يعامل الأسرى معاملة حسنة. اشتهر بالكرم والزهد في الدنيا، فلم يكن يسعى إلى الثروة أو المظاهر، وترك عند وفاته مالاً لا يكفي لشراء كفن.

كان محباً للعلم والعلماء، وأسّس المدارس والمكتبات، وشجّع العلماء على التأليف والترجمة. كما أولى عناية كبيرة بالبنية التحتية، فعمّر المساجد، وأقام القلاع والتحصينات الدفاعية مثل قلعة جبل المقطم في القاهرة.

الإرث الحضاري والسياسي

لا يمكن اختزال أثر صلاح الدين في معاركه أو فتوحاته، بل امتد أثره إلى الجوانب السياسية والثقافية. فقد أعاد للأمة الإسلامية الثقة بنفسها بعد عقود من الهزائم والانقسامات، وأثبت أن الوحدة والقيم الإسلامية قادرة على مواجهة أعقد التحديات.

أصبح صلاح الدين نموذجاً يُحتذى به في القيادة الرشيدة القائمة على الإخلاص، والعدل، والتسامح، والبُعد عن الاستبداد. استلهم منه العديد من القادة والمفكرين المسلمين أفكارهم، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسيد قطب، وحتى قادة الحركات التحررية في العصر الحديث.

وفاته ومكان دفنه

توفي صلاح الدين الأيوبي في دمشق عام 1193م، بعد حياة حافلة بالجهاد والعمل الدؤوب لخدمة الأمة. دُفن في ضريح متواضع بالقرب من الجامع الأموي في دمشق، وقد كُتب على قبره عبارة تخلّد بساطته وتفانيه: “يا من لا يزول مُلكه، ارحم من قد زال مُلكه”.

جدول ملخص لأهم محطات حياة صلاح الدين الأيوبي

الخلاصة

صلاح الدين الأيوبي لم يكن مجرد فاتح لمدينة القدس، بل كان قائداً نهضوياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وحّد الأمة بعد أن تفرقت، وواجه الحملات الصليبية بنجاح دون أن يتخلى عن أخلاقه وقيمه الإسلامية. جمع بين شجاعة الميدان، وحنكة السياسة، ونبل الإنسان، فاستحق مكانته كأحد أعظم القادة في التاريخ الإسلامي والعالمي. لقد مثّل مرحلة مضيئة في تاريخ الأمة، ما زالت تلهم الأجيال جيلاً بعد جيل.

المراجع

1. ابن شداد، “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية”.

2. ستانلي لين بول، “صلاح الدين الأيوبي: وسقوط مملكة القدس”.